وعادت الطيور ( قصة قصيرة )
في حقل لم يتسنى لبشر أن يطأه من ذي قبل ، سنابل تتمايل ، وطيور ترفرف .. كانت تغدو وتروح ، وفي هجعة الليل تؤوي إلى أعشاشها لتغفو وتنام .
هكذا حالها كل يوم وفي كل صباح . الحقل لديها كالمدينة الآمنة والتي تنعم فيها بالحياة الطيبة . حتى أطل عليها غريب لم تره قبل ذلك قط ، فراحت تصفر في السماء تحذيرا وتنبيها لأعدادها المتناثرة في الحقل والتي لا تعلم بعد عن ذاك الغريب .
ثم فجأة سقط طير وتهادى على الأرض كريشة تلعب بها نسيمات الهواء بفعل رصاصة من بندقية ذلك الغريب . فعلمت الطيور أنها على موعد مع مجرم لا يأبه بها ..
فذهبت بعيدا ومع كل دوي طلقة ترفرف بأجنحتها ذعرا .. حتى غربت الشمس خلف أعناق الجبال البعيدة .. فأتت تتحسس أعشاشها التي تعرف أين تقع ولو في ظلمة الليل البهيم .
وما إن بزع النهار وتسللت أشعة الشمس بين هاتيك الغصون قامت تلك الطيور من أعشاشها لترى ماذا جرى .. فرأت خياما قد نصبت وبشرا قد تجمعت . ومعهم تلك الآلة المدوية .. فعلمت الطيور أنها حرب ستستمر معها لأيام وربما لشهور ..
فحزنت كثيرا ، حتى فكر البعض منها البحث عن مكان آخر يستوطنوه .
فعزمت على الرحيل في ذلك اليوم ، ولكن بعد أن أسقط الصيادون منها أعدادا كثيرة ، وكلما طار طير وقع إلا ما ندر ، حتى لم يبق من الألف طير إلا ثلاثمائة طير نجوا بأنفسهم ورحلوا ، واستوطنوا بعد ذلك بقعة فيها من الأشجار الشيء القليل ، وليس فيها منابع ماء أو حشائش لتبني أعشاشها . وبقت هناك ما يقارب السنة فحن أحدها إلى مدينته التي رحل عنها بفعل البشر وأضناه الشوق إلى ذلك المكان الذي كان يجمع شمل عائلته . والتي ذهبت أمه وأخته ضيحة لهذا العنف البشري .
ثم عزم على زيارة المكان فحذره عشيرته بأن الرحلة قد تكون مميتة . فلم يأبه بما قالوا . وذهب يحلق بجناحيه المتعبين كطائر حزين انسدلت أجنحته إلى الأرض فيصعب عليه بعد ذلك رفعهما . وكلما اقترب من الأرض عاد ليرفرف بتثاقل كي يرتفع حتى أطل من خلف الجبال ، فلاحت له مدينته التي عاش فيها وولد
ووقف على صخرة هناك .. وراح يسترجع ذكرياته الجميلة وهو يرقب مدينته الغناء وحقله الأخضر . ثم طار إلى هناك والشوق والحزن يختلجان سويا في قلبه شوق لأمه ولذكرياته وحزن على فراقهما . حتى وصل ووقع على أحد الأغصان في طرف الحقل . يتلفت هنا وهناك .. وهو صامت حزين .. وظل يترقب ويسائل نفسه .. هل هناك بشر ؟! واستمر كذلك حتى شارفت الشمس من المغيب وعزم على المبيت هنا هذه الليلة . لكي يظفر بإشراقة الشمس الآخاذة في حقله الذي حن له ..
ونام ليلته هذه . حتى أفلق الصبح وشعشع الضياء .
ثم أصبح ولا يوجد هنا إلا هو . فراح يصفر ويغرد والجبال ترد الصدى فيرجع إلى أذنيه المرهفتان .
ففرح وسعد بذلك .. وقام يجول ويصول في مدينته ويرقب ويترقب في أن يرى ذلك الإنسان . وكأنه لا يريد أن يراه . لكي يرجع إلى حقله وبالفعل لم ير أي غريب فطار كأنه النسر السريع . آيباً إلى عشيرته التي ظنت أنه مات لأنه أبطأ عليهم ولم يرجع . فحزنوا عليه ولأنه يتيم .
وماهي إلا لحظات حتى صفر عاليا فسمعه كل من في تلك البقعة وعلموا أنه هو وقد رجع سالما .
ففرحوا له كثيرا . وبشرهم بأن حقلهم قد تطهر من أولئك البشر وخلى منهم . ففرحوا فرحا وقاموا يغردون ويلحنون . كأنهم قد وطئوا حقلهم ذاك ..
وعزموا جميعا على العودة ولكن في صباح الغد .
وهم على إثر ذلك في شوق ولهفة وسعادة تغمرهم . وبعد أن سطعت الشمس بضياءها الذهبي تنافروا من أعشاشهم وتطايروا كالشرر وحلقوا أسرابا أربعة كل سرب مائة طير ما عدا سرب وحيد فيبلغ عدده ثمانون طير صغير .. عائدون إلى موطنهم الجميل .
حتى أشرفوا على حقلهم وراح كل إلى عشه وآلمه ما حل به من تدمير وحرق بفعل البشر . ولكن سعادة العودة غلبت حزنهم ، وفرح الرجوع سيطر على وجدان الألم .. وذهب كل يبني عشه بمنقاره .
وأخيرا .. ( هكذا هي الحياة أيها البشر ..! لا بد من حوادث تمر بنا فنفترق ونحزن ، حتى ولو كان ذلك خارج عن إرادتنا ولكن : بإرادتنا أن نصلح ما مضى ونبني ما قد هدم وردم .. فهل تعقلون ؟! لا أدري ..!! )
.