أيها الواقف على جبهة الشرف
أيها الصامد رغم الموت
بوركت فى كل كتاب
وتسامت كلماتك
ترسم الطريق للأجيال
رمزا للحب
والعدل
والحرية
من قصيدة " الفارس الأخير"
سنوات طويلة مرت على رحيل تيمور الملوانى طويت من أعمارنا، جرت تحت الجسر مياه كثيرة، تغيرنا كثيرا ولكن لم تزل ذكراه حية فى قلوبنا، نبراسا وأملا فى مستقبل أفضل، رحلة قصيرة فى الحياة، غنية بالمعارك والنضال فى أروقة الجامعة وعبر مظاهرات الشوارع ، والندوات والمؤتمرات، شعلة أضاءت فى سماؤنا ثم إنطفأت سريعا.
كان ظهوره الأول والأبرز فى انتفاضة طلاب جامعة الأسكندرية فى نوفمبر 1968 حينما بدأت بأحداث محدودة من طلاب المعهد الدينى بالمنصورة وطلاب المدارس الثانوية ضد قرار وزير التعليم آنذاك "محمد حلمى مراد" ووجهت بقمع شديد، وسرعان ما نقل صورة ما حدث الى كلية الهندسة بالأسكندرية طالبان أحدهما بالفرقة الثانية والآخر بالإعدادى ( وهو خيرت الشاطر الذى أصبح فيما بعد النائب الأول لمرشد جماعة الإخوان المسلمين )، فاشتعل الطلاب غضبا وعقدوا مؤتمرا كبيرا بمدرج الإعدادى أكبر مدرجات الكلية حضره الأستاذ " عصمت زين الدين" رئيس قسم الفيزياء النووية بالكلية، قرروا بعدها القيام بمظاهرة ضد النظام ووزير التعليم، وحين خرجت المظاهرة من الكلية وعلى رأسها رئيس اتحاد الجامعة " عاطف الشاطر" وبعد أمتار تصدى للمظاهرة قوات الأمن بقسوة ووحشية، وألقى القبض على عاطف الشاطر وثلاثة من رفاقه، عاد الباقون الى الكلية ورفع تيمور شعار" معتصمون معتصمون حتى يعود المعتقلون"،
حضر الى موقع الحدث سريعا المحافظ " أحمد كامل" ضابط المخابرات السابق وأحد أعمدة النظام، وقابله الطلاب الغاضبون عند مدخل الكلية، وكان الرجل يتكلم بعصبية وعنجهية، وصرخ تيمور من بين الحشود " المحافظ رهينة ..المحافظ رهينة" وفجأة تم سحب المحافظ وأدخل غرفة الحرس الجامعى مع التهديد بعدم الإفراج عنه حتى عودة المعتقلين، وفعلا أصدر أوامره بالإفراج عن عاطف الشاطر والطلاب الثلاثة الذين كانوا قد رحلوا الى مديرية الأمن، وعادوا وسط تهليل الطلاب فرحا بإنتصارهم، وعقد مؤتمر طلابى بمدرج إعدادى حاول فيه المحافظ الحديث ولكنه قوطع من الطلبة فقرر الإنسحاب سريعا ليعل أنه ينتظر هذا المساء وفدا منهم فى مكتبه.
فى غمرة هذه الأحداث قرر الطلاب الإعتصام بالكلية حتى تجاب مطالبهم التى تم صياغتها على عجل وتبدأ بالمطالبة بإقالة وزيرى التعليم والداخلية، مرورا بالحرب ضد اسرائيل وحرية الصحافة، كانت الأحداث سريعة وتلقائية وهكذا كانت المطالب.
بدأ الطلاب قليلى الخبرة فى تنظيم صفوفهم وإختيار قيادة لهم وتكوين بعض اللجان لقيادة الإعتصام منها لجنة الترصد والمراقبة وعلى رأسها الدكتور عصمت زين الدين، وتم الإستيلاء على مطبعة الكلية والبدء فى طباعة منشورات وتوزيعها على سكان المدينة فى الأتوبيسات والترام والمحلات وعلى الجماهير التى التفت حول الكلية اما فضولا او تأييدا.
كان تيمور بارعا فى صياغة الشعارات الفورية، وكانت شعاراته التى تقول " لا صدقى ولا الغول..عبد الناصر المسئول" و "يا شعراوى يا سفاح دم الطلبة غير مباح" تلعلع من على جدران الكلية ومن خلال الميكروفونات، والمنشورات تملأ المدينة، والناس يتقاطرون لمساندة الطلبة وخاصة من سكان حى الحضرة الفقير المقابل للكلية، والغضب يتصاعد وكذلك المطالب.
فى شهادة أحمد كامل محافظ الأسكندرية وقت الأحداث أنه اتصل بسامى شرف وزير رئاسة الجمهورية طالبا منه ابلاغ عبد الناصر بضرورة نزول الجيش الى الشارع لحفظ الأمن، فاحاله الرئيس عبد الناصر الى محمد فوزى وزير الحربية الذى أبلغه (الكلام للمحافظ ) أنه وضع قيادة اللواء الشمالى بمنطقة الأسكندرية تحت تصرفه، وفعلا تحركت قوات الجيش لتعسكر فى استاد الجامعة المقابل لكلية الهندسة وارسلت القوات الجوية مجموعة من طائرات الهليوكوبتر لتحوم فوق كلية الهندسة، وصدرت الأوامر بإغلاق الجامعات والمدارس.
وفى يوم 25 نوفمبر بدأت الجماهير الغاضبة تخرج فى مظاهرات حاشدة فى الشوارع، فى ثورة غاضبة على النظام وعلى الهزيمة وعلى أوضاعها البائسة لتجتاح شوارع الأسكندرية وتشتبك بقوات الأمن التى إستخدمت اقسى اساليب العنف ضدها، وفى حصيلة لمظاهرات هذا اليوم التى أعلنها النائب العام "على نور الدين" كانت" تحطيم 50 اتوبيس عام، وعدد كبير من عربات الترام، بالإضافة الى تحطيم جميع اشارات واكشاك المرور القريبة، وحرق نادى موظفى المحافظة بالشاطبى، أما الضحايا فبلغوا 16 حالة وفاة واصابة 167 ونقلهم الى المستشفيات وتم القيض على 462 شخص " بيان وزير العدل".
شاركت السماء فى هذا الغضب بنوة شديدة على الأسكندرية مصحوبة برعد وبرق وأمطار غزيرة مما ساهم فى كسر موجة المظاهرات، ليلتها وازاء تطور الأحداث وسقوط هذا العدد الرسمى من الضحايا قرر الطلاب فض إعتصامهم، وتم القاء القبض على 17 من قيادات الطلبة منهم تيمور وتحويلهم الى محاكمة عسكرية.
هكذأ وفى ظل هذه الثورة بدأت شهادة الميلاد لهذا الفتى الذى إشتعل حبا لمصر وللقضية واستمر باقيا على العهد من وقتها حتى وافته المنية، وحتى حين تحولت المجموعة التى قبض عليها معه الى صف الأمن والمباحث ظل محافظا على روابطه معهم فقد كان قلبه كما يقول ابن عربى يسع الجميع ولم يكن يعرف كيف يكره، وفى بدايات السبعينيات وحين عاد من رحلته الإجبارية من السجن والتجنيد بقرار جمهورى كانت علاقاته القديمة هى التى تحميه من بطش طلاب المباحث وتحمينا أحيانا.
مجلات الحائط والتى كانت بديلا لنا فى غياب الفيسبوك فى نقل وجهات نظرنا واعلانها لجموع الطلاب، كانت مجلته "الصرخة" هى بالفعل صرخة حقيقية ضد الظلم والإستغلال، وكنا نراه وهو يكتبها بسرعة وبعفوية وتلقائية شديدتين لكن كان الجميع فى انتظارها لتتحولق حولها جموع الطلاب وصيحات الإعجاب والقهقهات تصدر منهم لشدة مقالتها وعباراتها الساخرة.
كان تيمور من هذا النوع من القادة الذى يفاجأك دائما بعباراته وشعاراته, وكان لديه قدرة عجيبة على استخدام الموروث الدينى فى شحن الجماهير، أذكر مقولته " من رأى منكم منكرا فليغيره بيدهه، فإن لم يستطع فبالجزمة يا ولاد الكلب"، وفى احدى المؤتمرات الكبرى التى اقيمت فى كلية الهندسة فى 72 والغضب الشديد الطلاب على مماطلة النظام فى شن الحرب ضد إسرائيل، صعد تيمور الى المنصة وأمسك الميكروفون وبصوته الجهورى قال " بسم الله الرحمن الرحيم.. مالكم لا تقاتلون فى سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم اهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا..صدق الله العظيم" ، لتلتهب الأكف بالتصفيق.
يقول الشاعر "عبد الستار محمود"
نغّم يا "تيمو" الهتاف
داحنا معاك صوتك
واللى ما عمره انشاف
يبقى الهتاف موتك
جمل المحامل برك
مين يرفع الراية
ومين فى ليل الحلك
يهدى الخطا الجاية
ياللى الكتاف محملك
تهتف ولك غاية
غايتك تعيد للفلك
نجمة تكون آيه
لكل سالك سلك
طريق صعيب وطويل
ورحلة الألف ميل
شايف لها نهاية.
وداعا تيمور الملوانى
.
منقول
اعجبني
.
.
ابو سامر ...اليامون
.